الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **
{واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدى الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوء إلا أن يسجن أو عذاب أليم} قوله تعالى{واستبقا الباب} قال العلماء: وهذا من اختصار القرآن المعجز الذي يجتمع فيه المعاني؛ وذلك أنه لما رأى برهان ربه هرب منها فتعاديا، هي لترده إلى نفسها، وهو ليهرب عنها، فأدركته قبل أن يخرج. وحذفت الألف من }استبقا} في اللفظ لسكونها وسكون اللام بعدها؛ كما يقال: جاءني عبدالله في التثنية؛ ومن العرب من يقول: جاءني عبدا الله بإثبات الألف بغير همز، يجمع بين ساكنين؛ لأن الثاني مدغم، والأول حرف مد ولين. ومنهم من يقول: عبدا الله بإثبات الألف والهمز، كما تقول في الوقف. قوله تعالى{وقدت قميصه من دبر} أي من خلفه؛ قبضت في أعلى قميصه فتخرق القميص عند طوقه، ونزل التخريق إلى أسفل القميص. والاستباق طلب السبق إلى الشيء؛ ومنه السباق. والقد القطع، وأكثر ما يستعمل فيما كان طولا؛ قال النابغة: والقط بالطاء يستعمل فيما كان عرضا. وقال المفضل بن حرب: قرأت في مصحف }فلما رأى قميصه عط من دبره} أي شق. قال يعقوب: العط الشق في الجلد الصحيح والثوب الصحيح. في الآية دليل على القياس والاعتبار، والعمل بالعرف والعادة؛ لما ذكر من قد القميص مقبلا ومدبرا، وهذا أمر انفرد به المالكية في كتبهم؛ وذلك أن القميص إذا جبذ من خلف تمزق من تلك الجهة، وإذا جبذ من قدام تمزق من تلك الجهة، وهذا هو الأغلب. قوله تعالى{وألفيا سيدها لدى الباب} أي وجدا العزيز عند الباب، وعني بالسيد الزوج، والقبط يسمون الزوج سيدا. يقال: ألفاه وصادفه ووارطه ووالطه ولاطه كله بمعنى واحد؛ فلما رأت زوجها طلبت وجها للحيلة وكادت فـ }قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا} أي زنى. قوله تعالى{إلا أن يسجن} تقول: يضرب ضربا وجيعا. و}ما جزاء} ابتداء، وخبره }أن يسجن}. }أو عذاب أليم} عطف على موضع }أن يسجن} لأن المعنى: إلا السجن. ويجوز أو عذابا أليما بمعنى: أو يعذب عذابا أليما؛ قال الكسائي. {قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين، وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين، فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم، يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين} قوله تعالى{قال هي راودتني عن نفسي} قال العلماء: لما برأت نفسها؛ ولم تكن صادقة في حبه - لأن من شأن المحب إيثار المحبوب - قال{هي راودتني عن نفسي} نطق يوسف بالحق في مقابلة بهتها وكذبها عليه. قال نوف الشامي وغيره: كأن يوسف عليه السلام لم يبن عن كشف القضية، فلما بغت به غضب فقال الحق. قوله تعالى{وشهد شاهد من أهلها} لأنهما لما تعارضا في القول احتاج الملك إلى شاهد ليعلم الصادق من الكاذب، فشهد شاهد من أهلها. أي حكم حاكم من أهلها؛ لأنه حكم منه وليس بشهادة. وقد اختلف في هذا الشاهد على أقوال أربعة: الأول - أنه طفل في المهد تكلم؛ قال السهيلي: وهو الصحيح؛ قلت: قد روي عن ابن عباس وأبي هريرة وابن جبير وهلال بن يساف والضحاك أنه كان صبيا في المهد؛ إلا أنه لو كان صبيا تكلم لكان الدليل نفس كلامه، دون أن يحتاج إلى استدلال بالقميص، وكان يكون ذلك خرق عادة، ونوع معجزة؛ والله أعلم. وسيأتي من تكلم في المهد من الصبيان في سورة [البروج] إن شاء الله. إذا تنزلنا على أن يكون الشاهد طفلا صغيرا فلا يكون فيه دلالة على العمل بالإمارات كما ذكرنا؛ وإذا كان رجلا فيصح أن يكون حجة بالحكم بالعلامة في اللقطة وكثير من المواضع؛ حتى قال مالك في اللصوص: إذا وجدت معهم أمتعة فجاء قوم فادعوها، وليست لهم بينة فإن السلطان يتلوم لهم في ذلك؛ فإن لم يأت غيرهم دفعها إليهم. وقال محمد في متاع البيت إذا اختلفت فيه المرأة والرجل: إن ما كان للرجال فهو للرجل، وما كان للنساء فهو للمرأة، وما كان للرجل والمرأة فهو للرجل. وكان شريح وإياس بن معاوية يعملان على العلامات في الحكومات؛ وأصل ذلك هذه الآية، والله أعلم. قوله تعالى{إن كان قميصه قد من قبل} كان في موضع جزم بالشرط، وفيه من النحو ما يشكل، لأن حروف الشرط ترد الماضي إلى المستقبل، وليس هذا في كان؛ فقال المبرد محمد بن يزيد: هذا لقوة كان، وأنه يعبر بها عن جميع الأفعال. وقال الزجاج: المعنى إن يكن؛ أي إن يعلم، والعلم لم يقع، وكذا الكون لأنه يؤدي عن العلم. }قد من قبل} فخبر عن }كان} بالفعل الماضي؛ كما قال زهير: وقرأ يحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق }من قبل} بضم القاف والباء واللام، وكذا }دبر} قال الزجاج: يجعلهما غايتين كقبل وبعد؛ كأنه قال: من قبله ومن دبره، فلما حذف المضاف إليه - وهو مراد - صار المضاف غاية نفسه بعد أن كان المضاف إليه غاية له. ويجوز }من قبل} }ومن دبر} بفتح الراء واللام تشبيها بما لا ينصرف؛ لأنه معرفة ومزال عن بابه. وروى محبوب عن أبي عمرو }من قبل} }ومن دبر} مخففان مجروران. قوله تعالى{فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن} قيل: قال لها ذلك العزيز عند قولها قوله تعالى{يوسف أعرض عن هذا} القائل هذا هو الشاهد. و}يوسف} نداء مفرد، أي يا يوسف، فحذف. }أعرض عن هذا} أي لا تذكره لأحد واكتمه. }واستغفري لذنبك} أقبل عليها فقال: وأنت استغفري زوجك من ذنبك لا يعاقبك. }إنك كنت من الخاطئين} ولم يقل من الخاطئات لأنه قصد الإخبار عن المذكر والمؤنث، فغلب المذكر؛ والمعنى: من الناس الخاطئين، أو من القوم الخاطئين؛ مثل {وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين، فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكأ وآتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم} قوله تعالى{وقال نسوة في المدينة} ويقال{نُسوة} بضم النون، وهي قراءة الأعمش والمفضل والسلمي، والجمع الكثير نساء. ويجوز: وقالت نسوة، وقال نسوة، مثل قالت الأعراب وقال الأعراب؛ وذلك أن القصة انتشرت في أهل مصر فتحدث النساء. قيل: امرأة ساقي العزيز، وامرأة خبازه، وامرأة صاحب دوابه، وامرأة صاحب سجنه. وقيل: امرأة الحاجب؛ عن ابن عباس وغيره. }تراود فتاها عن نفسه} الفتى في كلام العرب الشاب، والمرأة فتاة. }قد شغفها حبا} قيل: شغفها غلبها. وقيل: دخل حبه في شغافها؛ عن مجاهد. وغيره. وروى عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس قال: دخل تحت شغافها. وقال الحسن: الشغف باطن القلب. السدي وأبو عبيد: شغاف القلب غلافه، وهو جلد عليه. وقيل: هو وسط القلب؛ والمعنى في هذه الأقوال متقارب، والمعنى: وصل حبه إلى شغافها فغلب عليه؛ قال النابغة: وقد قيل: إن الشغاف داء؛ وأنشد الأصمعي للراجز: وقرأ أبو جعفر بن محمد وابن محيصن والحسن }شعفها} بالعين غير معجمة؛ قال ابن الأعرابي: معناه أحرق حبه قلبها؛ قال: وعلى الأول العمل. قال الجوهري: وشعفه الحب أحرق قلبه. وقال أبو زيد: أمرضه. وقد شعف بكذا فهو مشعوف. وقرأ الحسن }قد شعفها} قال: بطنها حبا. قال النحاس: معناه عند أكثر أهل اللغة قد ذهب بها كل مذهب؛ لأن شعاف الجبال. أعاليها؛ وقد شغف بذلك شغفا بإسكان الغين إذا أولع به؛ إلا أن أبا عبيدة أنشد بيت امرئ القيس: قال: فشبهت لوعة الحب وجواه بذلك. وروي عن الشعبي أنه قال: الشغف بالغين المعجمة حب، والشعف بالعين غير المعجمة جنون. قال النحاس: وحكي }قد شغِفها} بكسر الغين، ولا يعرف في كلام العرب إلا }شغفها} بفتح الغين، وكذا }شعفها} أي تركها مشعوفة. وقال سعيد بن أبي عروبة عن الحسن: الشغاف حجاب القلب، والشعاف سويداء القلب، فلو وصل الحب إلى الشعاف لماتت؛ وقال الحسن: ويقال إن الشغاف الجلدة اللاصقة بالقلب التي لا ترى، وهي الجلدة البيضاء، فلصق حبه بقلبها كلصوق الجلدة بالقلب. قوله تعالى{إنا لنراها في ضلال مبين} أي في هذا الفعل. وقال قتادة{فتاها} وهو فتى زوجها، لأن يوسف كان عندهم في حكم المماليك، وكان ينفذ أمرها فيه. وقال مقاتل عن أبي عثمان النهدي عن سلمان الفارسي قال: إن امرأة العزيز استوهبت زوجها يوسف فوهبه لها، وقال: ما تصنعين به؟ قالت: أتخذه ولدا؛ قال: هو لك؛ فربته حتى أيفع وفي نفسها منه ما في نفسها، فكانت تنكشف له وتتزين وتدعوه من وجه اللطف فعصمه الله. قوله تعالى{فلما سمعت بمكرهن} أي بغيبتهن إياها، واحتيالهن في ذمها. وقيل: إنها أطلعتهن واستأمنتهن فأفشين سرها، فسمي ذلك مكرا. وقوله{أرسلت إليهن} في الكلام حذف؛ أي أرسلت إليهن تدعوهن إلى وليمة لتوقعهن فيما وقعت فيه؛ فقال مجاهد عن ابن عباس: إن امرأة العزيز قالت لزوجها إني أريد أن أتخذ طعاما فأدعو هؤلاء النسوة؛ فقال لها: افعلي؛ فاتخذت طعاما، ثم نجدت لهن البيوت؛ نجدت أي زينت؛ والنجد ما ينجد به البيت من المتاع أي يزين، والجمع نجود عن أبي عبيد؛ والتنجيد التزيين؛ وأرسلت إليهن أن يحضرن طعامها، ولا تتخلف منكن امرأة ممن سميت. قال وهب بن منبه: إنهن كن أربعين امرأة فجئن على كره منهن، وقد قال فيهن أمية بن أبي الصلت: ويروى: أنماطا. قال وهب بن منبه: فجئن وأخذن مجالسهن. }وأعتدت لهن متكأ} أي هيأت لهن مجالس يتكئن عليها. قال ابن جبير: في كل مجلس جام فيه عسل وأترج وسكين حاد. وقرأ مجاهد وسعيد بن جبير }متكا} مخففا غير مهموز، والمتك هو الأترج بلغة القبط، وكذلك فسره مجاهد روى سفيان عن منصور عن مجاهد قال: المتكأ مثقلا هو الطعام، والمتك مخففا هو الأترج؛ وقال الشاعر: وقد تقول أزد شنوءة: الأترجة المتكة؛ قال الجوهري: المُتْكَ ما تبقيه الخاتنة. وأصل المتك الزماورد. والمتكاء من النساء التي لم تحفض. قال الفراء: حدثني شيخ من ثقات أهل البصرة أن المتك مخففا الزماورد. وقال بعضهم: إنه الأترج؛ حكاه الأخفش. ابن زيد: أترجا وعسلا يؤكل به؛ قال الشاعر: أي أكلنا. النحاس: قوله تعالى{واعتدت} من العتاد؛ وهو كل ما جعلته عدة لشيء. }متكأ} أصح ما قيل فيه ما رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: مجلسا، وأما قول جماعة من أهل، التفسير إنه الطعام فيجوز على تقدير: طعام متكأ، مثل{واسأل القرية}؛ ودل على هذا الحذف }وآتت كل واحدة منهن سكينا} لأن حضور النساء معهن سكاكين إنما هو لطعام يقطع بالسكاكين؛ كذا قال في كتاب }إعراب القرآن} له. وقال في كتاب }معاني القرآن} له: وروى معمر عن قتادة قال{المتكأ} الطعام. وقيل{المتكأ} كل ما أتكئ عليه عند طعام أو شراب أو حديث؛ وهذا هو المعروف عند أهل اللغة، إلا أن الروايات قد صحت بذلك. وحكى القتبي أنه يقال: اتكأنا عند فلان أي أكلنا، والأصل في }متكأ} موتكأ، ومثله متزن ومتعد؛ لأنه من وزنت، ووعدت ووكأت، ويقال: اتكأ يتكئ اتكاء. }كل واحدة منهن سكينا} مفعولان؛ وحكى الكسائي والفراء أن السكين يذكر ويؤنث، وأنشد الفراء: الجوهري: والغالب عليه التذكير، وقال: الأصمعي: لا يعرف في السكين إلا التذكير. قوله تعالى{وقالت اخرج عليهن} بضم التاء لالتقاء الساكنين؛ لأن الكسرة تثقل إذا كان بعدها ضمة، وكسرت التاء على الأصل. قيل: إنها قالت لهن: لا تقطعن ولا تأكلن حتى أعلمكن، ثم قالت لخادمها: إذا قلت لك ادع إيلا فادع يوسف؛ وإيل: صنم كانوا يعبدونه، وكان يوسف عليه السلام يعمل في الطين، وقد شد مئزره، وحسر عن ذراعيه؛ فقالت للخادم: ادع لي إيلا؛ أي ادع لي الرب؛ وإيل بالعبرانية الرب؛ قال: فتعجب النسوة وقلن: كيف يجيء؟! فصعدت الخادم فدعت يوسف، فلما انحدر قالت لهن: اقطعن ما معكن. }فلما رأينه أكبرنه} واختلف في معنى }أكبرنه} فروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس: أعظمنه وهبنه؛ وعنه أيضا أمنين وأمذين من الدهش؛ وقال الشاعر: وقال ابن سمعان عن عدة من أصحابه: إنهم قالوا أمذين عشقا؛ وهب بن منبه: عشقنه حتى مات منهن عشر في ذلك المجلس دهشا وحيرة ووجدا بيوسف. وقيل: معناه حضن من الدهش؛ قاله قتادة ومقاتل والسدي؛ قال الشاعر: وأنكر ذلك أبو عبيدة وغيره وقالوا: ليس ذلك في كلام العرب، ولكنه يجوز أن يكن حضن من شدة إعظامهن له، وقد تقزع المرأة فتسقط ولدها أو تحيض. قال الزجاج يقال أكبرنه، ولا يقال حضنه، فليس الإكبار بمعنى الحيض؛ وأجاب الأزهري فقال: يجوز أكبرت بمعنى حاضت؛ لأن المرأة إذا حاضت في الابتداء خرجت من حيز الصغر إلى الكبر؛ قال: والهاء في }أكبرنه} يجوز أن تكون هاء الوقف لا هاء الكناية، وهذا مزيف، لأن هاء الوقف تسقط في الوصل، وأمثل منه قول ابن الأنباري: إن الهاء كناية عن مصدر الفعل، أي أكبرن إكبارا، بمعنى حضن حيضا. وعلى قول ابن عباس الأول تعود الهاء إلى يوسف؛ أي أعظمن يوسف وأجللنه. قوله تعالى{وقطعن أيديهن} بالمدى حتى بلغت السكاكين إلى العظم؛ قاله وهب بن منبه. سعيد بن جبير: لم يخرج عليهن حتى زينته، فخرج عليهن فجأة فدهشن فيه، وتحيرن لحسن وجهه وزينته وما عليه، فجعلن يقطعن أيديهن، ويحسبن أنهن يقطعن الأترج؛ قال مجاهد: قطعنها حتى ألقينها. وقيل: خدشنها. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: حزا بالسكين، قال النحاس: يريد مجاهد أنه ليس قطعا تبين منه اليد، إنما هو خدش وحز، وذلك معروف في اللغة أن يقال إذا خدش الإنسان يد صاحبه قطع يده. وقال عكرمة{أيديهن} أكمامهن، وفيه بعد. وقيل: أناملهن؛ أي ما وجدن ألما في القطع والجرح، أي لشغل قلوبهن بيوسف، والتقطيع يشير إلى الكثرة، فيمكن أن ترجع الكثرة إلى واحدة جرحت يدها في موضع، ويمكن أن يرجع إلى عددهن. قوله تعالى{وقلن حاش لله} أي معاذ الله. وروى الأصمعي عن نافع أنه قرأ كما قرأ أبو عمرو بن العلاء. }وقلن حاشا لله} بإثبات الألف وهو الأصل، ومن حذفها جعل اللام في }لله} عوضا منها. وفيها أربع لغات؛ يقال: حاشاك وحاشا لك وحاش لك وحشا لك. ويقال: حاشا زيد وحاشا زيدا؛ قال النحاس: وسمعت علي بن سليمان يقول سمعت محمد بن يزيد يقول: النصب أولى؛ لأنه قد صح أنها فعل لقولهم حاش لزيد، والحرف لا يحذف منه؛ وقد قال، النابغة: وقال بعضهم: حاش حرف، وأحاشي فعل. ويدل على كون حاشا فعلا وقوع حرف الجر بعدها. وحكى أبو زيد عن أعرابي: اللهم اغفر لي ولمن يسمع، حاشا الشيطان وأبا الأصبغ؛ فنصب بها. وقرأ الحسن }وقلن حاش لله} بإمكان الشين، وعنه أيضا }حاش الإله}. ابن مسعود وأبي{حاش الله} بغير لام، ومنه قول الشاعر: قال الزجاج: وأصل الكلمة من الحاشية، والحشا بمعنى الناحية، تقول: كنت في حشا فلان أي في ناحيته؛ فقولك: حاشا لزيد أي تنحى زيد من هذا وتباعد عنه، والاستثناء إخراج وتنحية عن جملة المذكورين. وقال أبو علي: هو فاعل من المحاشاة؛ أي حاشا يوسف وصار في حاشية وناحية مما قرف به، أو من أن يكون بشرا؛ فحاشا وحاش في الاستثناء حرف جر عند سيبويه، وعلى ما قال المبرد وأبو علي فعل. قوله تعالى{ما هذا بشرا} قال الخليل وسيبويه{ما} بمنزلة ليس؛ تقول: ليس زيد قائما، و}ما هذا بشرا} و ومنع نصا النصب؛ ولا نعلم بين النحويين اختلافا أنه جائز: ما فيك براغب زيد، وما إليك بقاصد عمرو، ثم يحذفون الباء ويرفعون. وحكى البصريون والكوفيون ما زيد منطلق بالرفع، وحكى البصريون أنها لغة تميم، وأنشدوا: الند والنديد والنديدة المثل والنظير. وحكى الكسائي أنها لغة تهامة ونجد. وزعم الفراء أن الرفع أقوى الوجهين: قال أبو إسحاق: وهذا غلط؛ كتاب الله عز وجل ولغة رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوى وأولى. قلت: وفي مصحف حفصة رضي الله عنها }ما هذا ببشر} ذكره الغزنوي. قال القشيري أبو نصر: وذكرت النسوة أن صورة يوسف أحسن، من صورة البشر، بل هو في صورة ملك؛ وقال الله تعالى وروي عن الحسن{ما هذا بشرى} بكسر الباء والشين، أي ما هذا عبدا مشترى، أي ما ينبغي لمثل هذا أن يباع، فوضع المصدر موضع اسم المفعول، كما قال {قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونن من الصاغرين} قوله تعالى{قالت فذلكن الذي لمتنني فيه} لما رأت افتتانهن بيوسف أظهرت عذر نفسها بقولها{لمتنني فيه} أي بحبه، و}ذلك} بمعنى }هذا} وهو اختيار الطبري. وقيل: الهاء للحب، و}ذلك} عل بابه، والمعنى: ذلكن الحب الذي لمتنني فيه، أي حب هذا هو ذلك الحب. واللوم الوصف بالقبيح. ثم أقرت وقالت{ولقد راودته عن نفسه فاستعصم} أي امتنع. وسميت العصمة عصمة لأنها تمنع من ارتكاب المعصية. وقيل{استعصم} أي استعصى، والمعنى واحد. }ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن} عاودته المراودة بمحضر منهن، وهتكت جلباب الحياء، ووعدت بالسجن إن لم يفعل، وإنما فعلت هذا حين لم تخش لوما ولا مقالا خلاف أول أمرها إذ كان ذلك بينه وبينها. }وليكون من الصاغرين} أي الأذلاء. وخط المصحف }وليكونا} بالألف وتقرأ بنون مخففة للتأكيد؛ ونون التأكيد تثقل وتخفف والوقف على قوله{ليسجنن} بالنون لأنها مثقلة، وعلى }ليكونا} بالألف لأنها مخففة، وهي تشبه نون الإعراب في قولك: رأيت رجلا وزيدا وعمرا، ومثله قوله{لنسفعا بالناصية} ونحوها الوقف عليها بالألف، كقول الأعشى: أي أراد فاعبدا، فلما وقف عليه كان الوقف بالألف. {قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين، فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم} قوله تعالى{قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه} أي دخول السجن، فحذف المضاف؛ قاله الزجاج والنحاس. }أحب إلي} أي أسهل علي وأهون من الوقوع في المعصية؛ لا أن دخول السجن مما يحب على التحقيق. وحكي أن يوسف عليه السلام لما قال{السجن أحب إلي} أوحى الله إليه }يا يوسف! أنت حبست نفسك حيث قلت السجن أحب إلي، ولو قلت العافية أحب إلي لعوفيت}. وحكى أبو حاتم أن عثمان بن عفان رضي الله عنه قرأ{السَّجن} بفتح السين وحكى أن ذلك قراءة ابن أبي إسحاق وعبدالرحمن الأعرج ويعقوب؛ وهو مصدر سجنه سجنا. }وإلا تصرف عني كيدهن} أي كيد النسوان. وقيل: كيد النسوة اللاتي رأينه؟ فإنهن أمرنه بمطاوعة امرأة العزيز، وقلن له: هي مظلومة وقد ظلمتها. وقيل: طلبت كل واحدة أن تخلو به للنصيحة في امرأة العزيز؛ والقصد بذلك أن تعذله في حقها، وتأمره بمساعدتها، فلعله يجيب؛ فصارت كل واحدة تخلو به على حدة فتقول له: يا يوسف! اقض لي حاجتي فأنا خير لك من سيدتك؛ تدعوه كل واحدة لنفسها وتراوده؛ فقال: يا رب كانت واحدة فصرن جماعة. وقيل: كيد امرأة العزيز فيما دعته إليه من الفاحشة؛ وكنى عنها بخطاب الجمع إما لتعظيم شأنها في الخطاب، وإما ليعدل عن التصريح إلى التعريض. والكيد الاحتيال والاجتهاد؛ ولهذا سميت الحرب كيدا لاحتيال الناس فيها؛ قال عمر بن لجأ: قوله تعالى{أصب إليهن} جواب الشرط، أي أمل إليهن، من صبا يصبو - إذا مال واشتاق - صبوا وصبوة؛ قال: أي إن لم تلطف بي في اجتناب المعصية وقعت فيها. }وأكن من الجاهلين} أي ممن يرتكب الإثم ويستحق الذم، أو ممن يعمل عمل الجهال؛ ودل هذا على أن أحدا لا يمتنع عن معصية الله إلا بعون الله؛ ودل أيضا على قبح الجهل والذم لصاحبه. قوله تعالى{فاستجاب له ربه} لما قال. }وإلا تصرف عن كيدهن} تعرض للدعاء، وكأنه قال: اللهم اصرف عني كيدهن؛ فاستجاب له دعاءه، ولطف به وعصمه عن الوقوع في الزنى. }كيدهن} قيل: لأنهن جمع قد راودنه عن نفسه. وقيل: يعني كيد النساء. وقيل: يعني كيد امرأة العزيز، على ما ذكر في الآية قبل؛ والعموم أولى. {ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين} قوله تعالى{ثم بدا لهم} أي ظهر للعزيز وأهل مشورته }من بعد أن رأوا الآيات} أي علامات براءة يوسف - من قد القميص من دبر؛ وشهادة الشاهد، وحز الأيدي، وقلة صبرهن عن لقاء يوسف: أن يسجنوه كتمانا للقصة ألا تشيع في العامة، وللحيلولة بينه وبينها. وقيل: هي البركات التي كانت تنفتح عليهم ما دام يوسف فيهم؛ والأول أصح. قال مقاتل عن مجاهد عن ابن عباس في قوله{ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات} قال: القميص من الآيات، وشهادة الشاهد من الآيات، وقطع الأيدي من الآيات، وإعظام النساء إياه من الآيات. وقيل: ألجأها الخجل من الناس، والوجل من اليأس إلى أن رضيت بالحجاب مكان خوف الذهاب، لتشتفي إذا منعت من نظره، قال: أو كادته رجاء أن يمل حبسه فيبذل نفسه. قوله تعالى{ليَسْجُنُنه} }يُسْجُنُنه} في موضع الفاعل؛ أي ظهر لهم أن يسجنوه؛ هذا قول سيبويه. قال المبرد: وهذا غلط؛ لا يكون الفاعل جملة، ولكن الفاعل ما دل عليه }بدا} وهو مصدر؛ أي بدا لهم بداء؛ فحذف لأن الفعل يدل عليه؛ كما قال الشاعر: أي وحق الحق، فحذف. وقيل: المعنى ثم بدا لهم رأي لم يكونوا يعرفونه؛ وحذف هذا لأن في الكلام دليلا عليه، وحذف أيضا القول؛ أي قالوا: ليسجننه، واللام جواب ليمين مضمر؛ قاله الفراء، وهو فعل مذكر لا فعل مؤنث؛ ولو كان فعلا مؤنثا لكان يسجنانه؛ ويدل على هذا قوله }لهم} ولم يقل لهن، فكأنه أخبر عن النسوة وأعوانهن فغلب المذكر؛ قاله أبو علي. وقال السدي: كان سبب حبس يوسف أن امرأة العزيز شكت إليه أنه شهرها ونشر خبرها؛ فالضمير على هذا في }لهم} للملك. قوله تعالى{حتى حين} أي إلى مدة غير معلومة؛ قاله كثير من المفسرين. وقال ابن عباس: إلى انقطاع ما شاع في المدينة. وقال سعيد بن جبير: إلى ستة أشهر. وحكى الكيا أنه عنى ثلاثة عشر شهرا. عكرمة: تسع سنين. الكلبي: خمس سنين. مقاتل: سبع. وقد مضى في }البقرة} القول في الحين وما يرتبط به من الأحكام. وقال وهب: أقام في السجن اثنتي عشرة سنة. و}حتى} بمعنى إلى؛ كقوله أكره يوسف عليه السلام على الفاحشة بالسجن، وأقام خمسة أعوام، وما رضي بذلك لعظيم منزلته وشريف قدره؛ ولو أكره رجل بالسجن على الزنى ما جاز له إجماعا. فإن أكره بالضرب فقد اختلف فيه العلماء، والصحيح أنه إذا كان فادحا فإنه يسقط عنه إثم الزنى وحده. وقد قال بعض علمائنا: إنه لا يسقط عنه الحد، وهو ضعيف؛ فإن الله تعالى لا يجمع على عبده العذابين، ولا يصرفه بين بلاءين؛ فإنه من أعظم الحرج في الدين. {ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين} قوله تعالى{ودخل معه السجن فتيان} }فتيان} تثنية فتى؛ وهو من ذوات الياء، وقولهم: الفتو شاذ. قال وهب وغيره: حمل يوسف إلى السجن مقيدا على حمار، وطيف به }هذا جزاء من يعصي سيدته} وهو يقول: هذا أيسر من مقطعات النيران، وسرابيل القطران، وشراب الحميم، وأكل الزقوم. فلما انتهى يوسف إلى السجن وجد فيه قوما قد انقطع رجاؤهم، واشتد بلاؤهم؛ فجعل يقول لهم: اصبروا وابشروا تؤجروا؛ فقالوا له: يا فتى ! ما أحسن حديثك! لقد بورك لنا في جوارك، من أنت يا فتى؟ قال: أنا يوسف ابن صفي الله يعقوب، ابن ذبيح الله إسحاق، ابن خليل الله إبراهيم. وقال ابن عباس: لما قالت المرأة لزوجها إن هذا العبد العبراني قد فضحني، وأنا أريد أن تسجنه، فسجنه في السجن؛ فكان يعزي فيه الحزين، ويعود فيه المريض، ويداوي فيه الجريح، ويصلي الليل كله، ويبكي حتى تبكي معه جدر البيوت وسقفها والأبواب، وطهر به السجن، واستأنس به أهل السجن؛ فكان إذا خرج الرجل من السجن رجع حتى يجلس في السجن مع يوسف، وأحبه صاحب السجن فوسع عليه فيه؛ ثم قال، له: يا يوسف! لقد أحببتك. حبا لم أحب شيئا حبك؛ فقال: أعوذ بالله من حبك، قال: ولم ذلك؟ فقال: أحبني أبي ففعل بي أخوتي ما فعلوه، وأحبتني سيدتي فنزل بي ما ترى، فكان في حبسه حتى غضب الملك على خبازه وصاحب شرابه، وذلك أن الملك عمر فيهم فملوه، فدسوا إلى خبازه وصاحب شرابه أن يسماه جميعا، فأجاب الخباز وأبى صاحب الشراب، فانطلق صاحب الشراب فأخبر الملك بذلك، فأمر الملك بحبسهما، فاستأنسا بيوسف، فذلك قوله{ودخل معه السجن فتيان} وقد قيل: إن الخباز وضع السم في الطعام، فلما حضر الطعام قال الساقي: أيها الملك! لا تأكل فإن الطعام مسموم. وقال الخباز: أيها الملك لا تشرب! فإن الشراب مسموم؛ فقال الملك للساقي: اشرب! فشرب فلم يضره، وقال للخباز: كل؛ فأبى، فجرب الطعام على حيوان فنفق مكانه، فحبسهما سنة، وبقيا في السجن تلك المدة مع يوسف. واسم الساقي منجا، والآخر مجلث؛ ذكره الثعلبي عن كعب. وقال النقاش: اسم أحدهما شرهم، والآخر سرهم؛ الأول، بالشين المعجمة. والآخر بالسين المهملة. وقال الطبري: الذي رأى أنه يعصر خمرا هو نبو، قال السهيلي: وذكر اسم الآخر ولم أقيده. وقال }فتيان} لأنهما كانا عبدين، والعبد يسمى فتى، صغيرا كان أو كبيرا؛ ذكره الماوردي. وقال القشيري: ولعل الفتى كان اسما للعبد في عرفهم؛ ولهذا قال {قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون} قال لهما يوسف{لا يأتيكما طعام ترزقانه} يعني لا يجيئكما غدا طعام من منزلكما }إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما} لتعلما أني أعلم تأويل رؤياكما، فقالا: افعل! فقال لهما: يجيئكما كذا وكذا، فكان على ما قال؛ وكان هذا من علم الغيب خُص به يوسف. وبين أن الله خصه بهذا العلم لأنه ترك ملة قوم لا يؤمنون بالله، يعني دين الملك. ومعنى الكلام عندي: العلم بتأويل رؤياكما، والعلم بما يأتيكما من طعامكما والعلم بدين الله، فاسمعوا أولا ما يتعلق بالدين لتهتدوا، ولهذا لم يعبر لهما حتى دعاهما إلى الإسلام، فقال {واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون} قوله تعالى{واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب} لأنهم أنبياء على الحق. }ما كان لنا} أي ما ينبغي لنا. }أن نشرك بالله من شيء} }من} للتأكيد، كقولك: ما جاءني من أحد. }ذلك من فضل الله علينا} إشارة إلى عصمته من الزنى. }وعلى الناس} أي على المؤمنين الذين عصمهم الله من الشرك. وقيل{ذلك من فضل الله علينا} إذ جعلنا أنبياء، }وعلى الناس} إذ جعلنا الرسل إليهم. }ولكن أكثر الناس لا يشكرون} على نعمة التوحيد والإيمان. {يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار} قوله تعالى{يا صاحبي السجن} أي يا ساكني السجن؛ وذكر الصحبة لطول مقامهما فيه، كقولك: أصحاب الجنة، وأصحاب النار. }أأرباب متفرقون} أي في الصغر والكبر والتوسط، أو متفرقون في العدد. }خير أم الله الواحد القهار} وقيل: الخطاب لهما ولأهل السجن، وكان بين أيديهم أصنام يعبدونها من دون الله تعالى، فقال ذلك إلزاما للحجة؛ أي آلهة شتى لا تضر ولا تنفع. }خير أم الله الواحد القهار} الذي قهر كل شيء. نظيره {ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون} قوله تعالى{ما تعبدون من دونه إلا أسماء} بين عجز الأصنام وضعفها فقال{ما تعبدون من دونه} أي من دون الله إلا ذوات أسماء لا معاني لها. }سميتموها أنتم وآباؤكم} من تلقاء أنفسكم. وقيل: عنى بالأسماء المسميات؛ أي ما تعبدون إلا أصناما ليس لها من الإلهية شيء إلا الاسم؛ لأنها جمادات. وقال{ما تعبدون} وقد ابتدأ بخطاب الاثنين؛ لأنه قصد جميع من هو على مثل حالهما من الشرك. }إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم} فحذف، المفعول الثاني للدلالة؛ والمعنى: سميتموها آلهة من عند أنفسكم. }ما أنزل الله بها من سلطان} ذلك في كتاب. قال سعيد بن جبير{من سلطان} أي من حجة. }إن الحكم إلا لله} الذي هو خالق الكل. }أمر ألا تعبدوا إلا إياه} تعبدوه وحده ولا تشركوا معه غيره. }ذلك الدين القيم} أي القويم. }ولكن أكثر الناس لا يعلمون} {يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضي الأمر الذي فيه تستفتيان} قوله تعالى{أما أحدكما فيسقي ربه خمرا} أي قال للساقي: إنك ترد على عملك الذي كنت عليه من سقي الملك بعد ثلاثة أيام، وقال للآخر: وأما أنت فتدعى إلى ثلاثة أيام فتصلب فتأكل الطير من رأسك، قال: والله ما رأيت شيئا؛ قال: رأيت أو لم تر }قضي الأمر الذي فيه تستفتيان}. وحكى أهل اللغة أن سقى وأسقى لغتان بمعنى واحد، كما قال الشاعر: قال النحاس: الذي عليه أكثر أهل اللغة أن معنى سقاه ناوله فشرب، أو صب الماء في حلقه ومعنى أسقاه جعل له سقيا؛ قال الله تعالى قال علماؤنا: إن قيل من كذب في رؤياه ففسرها العابر له أيلزمه حكمها؟ قلنا: لا يلزمه؛ وإنما كان ذلك في يوسف لأنه نبي، وتعبير النبي حكم، وقد قال: إنه يكون كذا وكذا فأوجد الله تعالى ما أخبر كما قال تحقيقا لنبوته؛ فإن قيل: فقد روى عبدالرزاق عن معمر عن قتادة قال: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فقال: إني رأيت كأني أعشبت ثم أجدبت ثم أعشبت ثم أجدبت، فقال له عمر: أنت رجل تؤمن ثم تكفر، ثم تؤمن ثم تكفر، ثم تموت كافرا؛ فقال الرجل: ما رأيت شيئا؛ فقال له عمر: قد قضى لك ما قضى لصاحب يوسف؛ قلنا: ليست لأحد بعد عمر؛ لأن عمر كان محدثا، وكان إذا ظن ظنا كان وإذا تكلم به وقع، على ما ورد في أخباره؛ وهي كثيرة؛ منها: أنه دخل عليه رجل فقال له: أظنك كاهنا فكان كما ظن؛ خرجه البخاري. ومنها: أنه سأل رجلا عن اسمه فقال له فيه أسماء النار كلها، فقال له: أدرك أهلك فقد احترقوا، فكان كما قال: خرجه الموطأ. وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة }الحجر} إن شاء الله تعالى. {وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين} قوله تعالى{وقال للذي ظن} }ظن} هنا بمعنى أيقن، في قول أكثر المفسرين وفسره قتادة على الظن الذي هو خلاف اليقين؛ قال: إنما ظن يوسف نجاته لأن العابر يظن ظنا وربك يخلق ما يشاء؛ والأول أصح وأشبه بحال الأنبياء وأن ما قاله للفتيين في تعبير الرؤيا كان عن وحي، وإنما يكون ظنا في حكم الناس، وأما في حق الأنبياء فإن حكمهم حق كيفما وقع. }اذكرني عند ربك} أي سيدك، وذلك معروف في اللغة أن يقال للسيد رب؛ قال الأعشى: أي اذكر ما رأيته، وما أنا عليه من عبارة الرؤيا للملك، وأخبره أني مظلوم محبوس بلا ذنب. وفي قوله تعالى{فأنساه الشيطان ذكر ربه} الضمير في }فأنساه} فيه قولان: أحدهما: أنه عائد إلى يوسف عليه السلام، أي أنساه الشيطان ذكر الله عز وجل؛ وذلك أنه لما قال يوسف لساقي الملك - حين علم أنه سينجو ويعود إلى حالته الأولى مع الملك - }اذكرني عند ربك} نسي في ذلك الوقت أن يشكو إلى الله ويستغيث به، وجنح إلى الاعتصام بمخلوق؛ فعقب باللبث. قال عبدالعزيز بن عمير الكندي: دخل جبريل على يوسف النبي عليه السلام في السجن فعرفه يوسف، فقال: يا أخا المنذرين! مالي أراك بين الخاطئين؟! فقال جبريل عليه السلام: يا طاهر ابن الطاهرين! يقرئك السلام رب العالمين ويقول: أما استحيت إذ استغثت بالآدميين؟! وعزتي! لألبثنك في السجن بضع سنين؛ فقال: يا جبريل! أهو عني راض؟ قال: نعم! قال: لا أبالي الساعة. وروي أن جبريل عليه السلام جاءه فعاتبه عن الله تعالى في ذلك وطول سجنه، وقال له: يا يوسف! من خلصك من القتل من أيدي أخوتك؟! قال: الله تعالى، قال: فمن أخرجك من الجب؟ قال: الله تعالى قال: فمن عصمك من الفاحشة؟ قال: الله تعالى، قال: فمن صرف عنك كيد النساء؟ قال: الله تعالى، قال: فكيف وثقت بمخلوق وتركت ربك فلم تسأله؟! قال: يا رب كلمة زلت مني! أسألك يا إله إبراهيم وإسحاق والشيخ يعقوب عليهم السلام أن ترحمني؛ فقال له جبريل: فإن عقوبتك أن تلبث في السجن بضع سنين. قوله تعالى{فلبث في السجن بضع سنين} البضع قطعة من الدهر مختلف فيها؛ قال يعقوب عن أبي زيد: يقال بضع وبضع بفتح الباء وكسرها، قال أكثرهم: ولا يقال بضع ومائة، وإنما هو إلى التسعين. وقال الهروي: العرب تستعمل البضع فيما بين الثلاث إلى التسع. والبضع والبضعة واحد، ومعناهما القطعة من العدد. وحكى أبو عبيدة أنه قال: البضع ما دون نصف العقد، يريد ما بين الواحد إلى أربعة، وهذا ليس بشيء. في هذه الآية دليل على جواز التعلق بالأسباب وإن كان اليقين حاصلا فإن الأمور بيد مسببها، ولكنه جعلها سلسلة، وركب بعضها على بعض، فتحريكها سنة، والتعويل على المنتهى يقين. والذي يدل على جواز ذلك نسبة ما جرى من النسيان إلى الشيطان كما جرى لموسى في لقيا الخضر؛ وهذا بين فتأملوه. {وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون} قوله تعالى{وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان} لما دنا فرج يوسف عليه السلام رأى الملك رؤياه، فنزل جبريل فسلم على يوسف وبشره بالفرج وقال: إن الله مخرجك من سجنك، وممكن لك في الأرض، يذل لك ملوكها، ويطيعك جبابرتها، ومعطيك الكلمة العليا على إخوتك، وذلك بسبب رؤيا رآها الملك، وهي كيت وكيت، وتأويلها كذا وكذا، فما لبث في السجن أكثر مما رأى الملك الرؤيا حتى خرج، فجعل الله الرؤيا أولا ليوسف بلاء وشدة، وجعلها آخرا بشرى ورحمة؛ وذلك أن الملك الأكبر الريان بن الوليد رأى في نومه كأنما خرج من نهر يابس سبع بقرات سمان، في أثرهن سبع عجاف - أي مهازيل - وقد أقبلت العجاف على السمان فأخذن بآذانهن فأكلنهن، إلا القرنين، ورأى سبع سنبلات خضر قد أقبل عليهن سبع يابسات فأكلنهن حتى أتين عليهن فلم يبق منهن شيء وهن يابسات، وكذلك البقر كن عجافا فلم يزد فيهن شيء من أكلهن السمان، فهالته الرؤيا، فأرسل إلى الناس وأهل العلم منهم والبصر بالكهانة والنجامة والعرافة والسحر، وأشراف قومه، فقال{يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي} فقص عليهم، فقال القوم قوله تعالى{سبع بقرات سمان} حذفت الهاء من }سبع} فرقا بين المذكر والمؤنث }سمان} من نعت البقرات، ويجوز في غير القرآن سبع بقرات سمانا، نعت للسبع، وكذا خضرا، قال الفراء: ومثله قوله تعالى{يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي} جمع الرؤيا رؤى: أي أخبروني بحكم هذه الرؤيا. }إن كنتم للرؤيا تعبرون} العبارة مشتقة من عبور النهر، فمعنى عبرت النهر، بلغت شاطئه، فعابر الرؤيا يعبر بما يؤول إليه أمرها. واللام في }للرؤيا} للتبيين، أي إن كنتم تعبرون، ثم بين فقال: للرؤيا قاله الزجاج. {قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين} قوله تعالى{أضغاث أحلام} قال الفراء: ويجوز }أضغاث أحلام} قال النحاس: النصب بعيد، لأن المعنى: لم تر شيئا له تأويل، إنما هي أضغاث أحلام، أي أخلاط. وواحد الأضغاث ضغث، يقال لكل مختلط من بقل أو حشيش أو غيرهما ضغث؛ قال الشاعر: قوله تعالى{وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين} قال الزجاج: المعنى بتأويل الأحلام المختلطة، نفوا عن أنفسهم علم ما لا تأويل له، لا أنهم نفوا عن أنفسهم علم التأويل. وقيل: نفوا عن أنفسهم علم التعبير. والأضغاث على هذا الجماعات من الرؤيا التي منها صحيحة ومنها باطلة، ولهذا قال الساقي أصله الأناة، ومنه الحلم ضد الطيش؛ فقيل لما يرى في النوم حلم لأن النوم حالة أناة وسكون ودعة. وفي الآية دليل على بطلان قول من يقول: إن الرؤيا على أول ما تعبر، لأن القوم قالوا{أضغاث أحلام} ولم تقع كذلك؛ فإن يوسف فسرها على سني الجدب والخصب، فكان كما عبر؛ وفيها دليل على فساد أن الرؤيا على، رجل طائر، فإذا عبرت وقعت. {وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون} قوله تعالى{وقال الذي نجا منهما} يعني ساقي الملك. }وادكر بعد أمة} أي بعد حين، عن ابن عباس وغيره؛ ومنه }إلى أمة معدودة}هود: 8] وأصله الجملة من الحين. وقال ابن درستويه: والأمة لا تكون الحين إلا على حذف مضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه، كأنه قال - والله أعلم - : وادكر بعد حين أمة، أو بعد زمن أمة، وما أشبه ذلك؛ والأمة الجماعة الكثيرة من الناس. قال الأخفش: هو في اللفظ واحد، وفي المعنى جمع؛ وقال جنس من الحيوان أمة؛ وعن شبيل بن عزرة الضبعي{بعد أمه} بفتح الألف وإسكان الميم وهاء خالصة؛ وهو مثل الأمه، وهما لغتان، ومعناهما النسيان؛ ويقال: أمه يأمه أمها إذا نسي؛ فعلى هذا }وادكر بعد أمه}؛ ذكره النحاس؛ ورجل أمه ذاهب العقل. قال الجوهري: وأما ما في حديث الزهري (أمه) بمعنى أقر واعترف فهي لغة غير مشهورة. وقرأ الأشهب العقيلي - }بعد إمة} أي بعد نعمة؛ أي بعد أن أنعم الله عليه بالنجاة. ثم قيل: نسي الفتى يوسف لقضاء الله تعالى في بقائه في السجن مدة. وقيل: ما نسي، ولكنه خاف أن يذكر الملك الذنب الذي بسببه حبس هو والخباز؛ فقوله{وادكر} أي ذكر وأخبر. قال النحاس: أصل ادكر اذتكر؛ والذال قريبة المخرج من التاء؛ ولم يجز إدغامها فيها لأن الذال مجهورة، والتاء مهموسة، فلو أدغموا ذهب الجهر، فأبدلوا من موضع التاء حرفا مجهورا وهو الدال؛ وكان أولى من الطاء لأن الطاء مطبقة؛ فصار أذدكر، فأدغموا الذال في الدال لرخاوة الدال ولينها. ثم قال{أنا أنبئكم بتأويله} أي أنا أخبركم. وقرأ الحسن }أنا آتيكم بتأويله} وقال: كيف ينبئهم العلج؟! قال النحاس: ومعنى }أنبئكم} صحيح حسن؛ أي أنا أخبركم إذا سألت. }فأرسلوني} خاطب الملك ولكن بلفظ التعظيم، أو خاطب الملك وأهل مجلسه. {يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون} قوله تعالى{يوسف} نداء مفرد، وكذا }الصديق} أي الكثير الصدق. }أفتنا} أي فأرسلوه، فجاء إلى يوسف فقال: أيها الصديق! وسأله عن رؤيا الملك. }لعلي أرجع إلى الناس} أي إلى الملك وأصحابه. }لعلهم يعلمون} التعبير، أو }لعلهم يعلمون} مكانك من الفضل والعلم فتخرج. ويحتمل أن يريد بالناس الملك وحده تعظيما. {قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون} قوله تعالى{قال تزرعون} لما أعلمه بالرؤيا جعل يفسرها له، فقال: السبع من البقرات السمان والسنبلات الخضر سبع سنين مخصبات؛ وأما البقرات العجاف والسنبلات اليابسات فسبع سنين مجدبات؛ فذلك قوله{تزرعون سبع سنين دأبا} أي متوالية متتابعة؛ وهو مصدر على غير المصدر، لأن معنى }تزرعون} تدأبون كعادتكم في الزراعة سبع سنين. وقيل: هو حال؛ أي دائبين. وقيل: صفة لسبع سنين، أي دائبة. وحكى أبو حاتم عن يعقوب }دأبا} بتحريك الهمزة، وكذا روى حفص عن عاصم، وهما لغتان، وفيه قولان، قول أبي حاتم: إنه من دئب. قال النحاس: ولا يعرف أهل اللغة إلا دأب. والقول الآخر - إنه حرك لأن فيه حرفا من حروف الحلق؛ قاله الفراء، قال: وكذلك كل حرف فتح أول وسكن ثانية فتثقيله جائز إذا كان ثانيه همزة، أو هاء، أو عينا، أو غينا، أو حاء، أو خاء؛ وأصله العادة؛ قال: وقد مضى في }آل عمران} القول فيه. }فما حصدتم فذروه في سنبله} قيل: لئلا يتسوس، وليكون أبقى؛ وهكذا الأمر في ديار مصر. }إلا قليلا مما تأكلون} أي استخرجوا ما تحتاجون إليه بقدر الحاجة؛ وهذا القول منه أمر، والأول خبر. ويحتمل أن يكون الأول أيضا أمرا، وإن كان الأظهر منه الخبر؛ فيكون معنى{تزرعون} أي ازرعوا. هذه الآية أصل في القول بالمصالح الشرعية التي هي حفظ الأديان والنفوس والعقول والأنساب والأموال؛ فكل ما تضمن تحصيل شيء من هذه الأمور فهو مصلحة، وكل ما يفوت شيئا منها فهو مفسدة، ودفعه مصلحة؛ ولا خلاف أن مقصود الشرائع إرشاد الناس إلى مصالحهم الدنيوية؛ ليحصل لهم التمكن من معرفة الله تعالى وعبادته الموصلتين إلى السعادة الأخروية، ومراعاة ذلك فضل من الله عز وجل ورحمة رحم بها عباده، من غير وجوب عليه، ولا استحقاق؛ هذا مذهب كافة المحققين من أهل السنة أجمعين؛ وبسطه في أصول الفقه. {ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون} قوله تعالى{سبع شداد} يعني السنين المجدبات. }يأكلن} مجاز، والمعنى يأكل أهلهن. }ما قدمتم لهن} أي ما ادخرتم لأجلهن؛ ونحوه قول القائل: والنهار لا يسهو، والليل لا ينام؛ وإنما يسهى في النهار، وينام في الليل. وحكى زيد بن أسلم عن أبيه: أن يوسف كان يضع طعام الاثنين فيقربه إلى رجل واحد فيأكل بعضه، حتى إذا كان يوم قربه له فأكله كله؛ فقال يوسف: هذا أول يوم من السبع الشداد. }إلا قليلا} نصب على الاستثناء. }مما تحصنون} أي مما تحبسون لتزرعوا؛ لأن في استبقاء البذر تحصين الأقوات. وقال أبو عبيدة: تحرزون. وقال قتادة{تحصنون} تدخرون، والمعنى واحد؛ وهو يدل على جواز احتكار الطعام إلى وقت الحاجة. هذه الآية أصل في صحة رؤيا الكافر، وأنها تخرج على حسب ما رأى، لا سيما إذا تعلقت بمؤمن؛ فكيف إذا كانت آية لنبي. ومعجزة لرسول، وتصديقا لمصطفى للتبليغ، وحجة للواسطة بين الله - جل جلال - وبين عباده. {ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون} قوله تعالى{ثم يأتي من بعد ذلك عام} هذا خبر من يوسف عليه السلام عما لم يكن في رؤيا الملك، ولكنه من علم الغيب الذي آتاه الله. قال قتادة: زاده الله علم سنة لم يسألوه عنها إظهارا لفضله، وإعلاما لمكانه من العلم وبمعرفته. }فيه يغاث الناس} من الإغاثة أو الغوث؛ غوث الرجل فال واغوثاه، والاسم الغوث والغواث والغواث، واستغاثني فلان فأغثته، والاسم الغياث؛ صارت الواو ياء لكسرة ما قبلها. والغيث المطر؛ وقد غاث الغيث الأرض أي أصابها؛ وغاث الله البلاد يغيثها غيثا، وغيثت الأرض تغاث غيثا، فهي أرض مغيثة ومغيوثة؛ فمعنى }يغاث الناس} يمطرون. }وفيه يعصرون} فال ابن عباس: يعصرون الأعناب والدهن؛ ذكره البخاري. وروى حجاج عن ابن جريح قال: يعصرون العنب خمرا والسمسم دهنا، والزيتون زيتا. وقيل: أراد حلب الألبان لكثرتها؛ ويدل ذلك على كثرة النبات. وقيل{يعصرون} أي ينجون؛ وهو من العصرة، وهي المنجاة. قال أبو عبيدة والعصر بالتحريك الملجأ والمنجاة، وكذلك العصرة؛ قال أبو زبيد: والمنجود الفزع. واعتصرت بفلان وتعصرت أي التجأت إليه. قال أبو الغوث{يعصرون} يستغلون؛ وهو من عصر العنب. واعتصرت ماله أي استخرجته من يده. وقرأ عيسى }تعصرون} بضم التاء وفتح الصاد، ومعناه: تمطرون؛ من قول الله {وقال الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم، قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين} قوله تعالى{وقال الملك ائتوني به} أي فذهب الرسول فأخبر الملك، فقال: ائتوني به. }فلما جاءه الرسول} أي يأمره بالخروج. }قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة} أي حال النسوة. }فاسأله ما بال النسوة} ذكر النساء جملة ليدخل فيهن امرأة العزيز مدخل العموم بالتلويح حتى لا يقع عليها تصريح؛ وذلك حسن عشرة وأدب؛ وفي الكلام محذوف، أي فاسأله أن يتعرف ما بال النسوة. }اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم} فأبى أن يخرج إلا أن تصح براءته عند الملك مما قذف به، وأنه حبس بلا جرم. قوله تعالى{فاسأله ما بال النسوة} ذكر النساء جملة ليدخل فيهن امرأة العزيز مدخل العموم بالتلويح حتى لا يقع عليها تصريح؛ وذلك حسن عشرة وأدب؛ وفي الكلام محذوف، أي فاسأله أن يتعرف ما بال النسوة. قال ابن عباس: فأرسل الملك إلى النسوة وإلى امرأة العزيز - وكان قد مات العزيز فدعاهن فـ }قال ما خطبكن} أي ما شأنكن. }إذ راودتن يوسف عن نفسه} وذلك أن كل واحدة منهن كلمت يوسف في حق نفسها، على ما تقدم، أو أراد قول كل واحدة قد ظلمت امرأة العزيز، فكان ذلك مراودة منهن. }قلن حاش لله} أي معاذ الله. }ما علمنا عليه من سوء} أي زنى. }قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق} لما رأت إقرارهن ببراءة يوسف، وخافت أن يشهدن عليها إن أنكرت أقرت هي أيضا؛ وكان ذلك لطفا من الله بيوسف. و}حصحص الحق} أي تبين وظهر؛ وأصله حصص، فقيل: حصحص؛ كما قال: كبكبوا في كببوا، وكفكف في كفف؛ قال الزجاج وغيره. وأصل الحص استئصال الشيء؛ يقال: حص شعره إذا استأصله جزا؛ قال أبو القيس بن الأسلت: وسنة حصَّاء أي جرداء لا خير فيها، قال جرير: كأنه أراد أن يقول: والضبع، وهي السنة المجدبة؛ فوضع الذئب موضعه لأجل القافية؛ فمعنى }حصحص الحق} أي انقطع عن الباطل، بظهوره وثباته؛ قال: وقيل: هو مشتق من الحصة؛ فالمعنى: بانت حصة الحق من حصة الباطل. وقال مجاهد وقتادة: وأصله مأخوذ من قولهم؛ حص شعره إذا استأصل قطعه؛ ومنه الحصة من الأرض إذا قطعت منها. والحصحص بالكسر التراب والحجارة؛ ذكره الجوهري. }أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين} وهذا القول منها - وإن لم يكن سأل عنه - إظهار لتوبتها وتحقيق لصدق يوسف وكرامته؛ لأن إقرار المقر على نفسه أقوى من الشهادة عليه؛ فجمع الله تعالى ليوسف لإظهار صدقه الشهادة والإقرار، حتى لا يخامر نفسا ظن، ولا يخالطها شك. وشددت النون في }خطبكن} و}راودتن} لأنها بمنزلة الميم والواو في المذكر.
|